إرهاف... القصيدة التي أبكت كل من قرأها بالعالم العربي .. وهي للشاعر السوداني أ.د. زكي مكي اسماعيل يرثي فيها طفلته الراحلة أرهاف..وهي القصيدة الفائزة بالجائزة الأولى بتلفزيون الشرق الأوسط MBC من بين3500 شاعر عربي العام 1995 م بلندن .
صوُر تمرُ بخاطري
حفلت بألوان البراءة والعفاف
إرهافُ من شطّ الخليج ...
إلي المدائن والضفاف
إرهاف تبتدئُ الشريط ...
إرهاف في وسط الشريط
إرهاف خاتمةُ المطاف
إرهاف تمسكُ بالقلم ...
وتحومُ حول وريقةٍ
تحبو أناملها وتضغط بارتجاف
إرهاف ترسمُ بطةً ...
إرهاف ترسم قطةً
وهناك سربٌ من خراف
إرهاف أهديها كتاب..
فتروح تملاؤه الرسوم
من الغلاف إلي الغلاف
إرهافُ في ثوب الختان توشحت ..
كعروس في ليل الزفاف
إرهاف تمطرني القُبلّ
في كلّ بقعة من فمي ..
فوق الجباه علي الجبين
وتعيد دورتها علي وجهي تقبّل في طواف
(إيمان ) تضربها فتصرخ تستغيث
فأهم أضربها لها..
إرهافُ تمنعني وينفضُ الخلاف
** **
إرهافُ كانت تعشق المانجو علي مرِّ الفصول ..!
لم ياتُري ؟!
ألأنه حمضُي والأطفالُ للأحماض دوماً يعشقون ؟
أم أنه قد كان يشبه لونها القمحي ..
والخد الخجول ؟!
لكنني الآن ادركت السبب..
إرهافُ تعشقه يشابه حالها .. حال التجمد والسكون
فيه الشحوبُ وغضبهُ الآجل العجول
ولأنه لون الجفاف إذا تمدد بالصحاري والسهول
ولأنه لون الوداع لموسم (الدرت) الجميل علي الحقول
ولأنه لون الرحيل لكلّ خيرِ سوف يذهب او يزول
**
إرهافُ كانت قمةً في الذوق والكرم الأصيل
كانت كقامة كبرياء تعلو كأشجار النخيل
إرهافُ كانت آية للطُهر والخُلقِ الجميل
كانت كضوء الشمس منتشراً تبعثر في الأصيل
والآن كسفت شمسها ... أزفت لتعلن بالرحيل
** **
إرهاف كنتُ وعدتها يوماً ...
سأحضر في الصباح فواكهاً وكذا شرائح بسكويت
ونسيت إحدى الحاجيات ..
في زحمة الأسواقِ والعيشِ المميت
إرهافُ تفحص كلّ كيس الحاجيات
إرهافُ ترفض كلّ أشيائي تقول "أبي ..أبيت!"
بنتي تخاصمني تقول "غششتني "وأنا نسيت!
أنا لم أغشّّ صغيرتي لكن نسيت!
كانت تعلمني الكثير .. ومن مناهلها ارتويت
كانت بحق كبيرة وأنا الصغير بها اهتديت
إرهافُ لن أنساك أبداً ما حييت
** **
إرهاف ما كانت كأطفال الفريق
كانت ملاحتها الرزانة والامانة والنعومة والشقيق
كانت تشبَّه بالأزاهر والجواهر والعقيق
كانت إذا جاءت تريدُ حوائجاً..
تدنو تخاطبني بأسلوب رقيق
فأضمها وتضمني .. ضم الصديق إلي الصديق
"أبتي أريدُ البسكويت أحضره لي"
فألبي رغبتها بمشوارِ الطريق
** **
إرهافُ ياذواقةً .. لله درك من كنار
يا طفلةً حذقت بفطرتها فنونُ الاختيار
كانت تنسَّقُ بين لون شريطها وقميصها
وحذائها .. حتي الجوارب والزرار
كانت تُشدُّ الانتباه .. وتعلّمُ الذوق الصغار
كانت تميل إلي الظرافةِ واللطافةِ والهزار
** ***
صوُرٌ تمر بخاطري ...
وأراك يا إرهاف في حلل التفّوق والفلاح
إرهاف في (روب) التخرج والنجاح
إرهاف ترعي مكتبي ...
كرئيسة(للتيم) تعملُ بالمدائن والبطاح
إرهاف في ثوب الزفاف سعيدةٌ ...
نشوى يزُينها وشاح
إرهاف تمرحُ في حديقة بيتها
تلهو وإبنتها (صباح)
إرهاف يصحبها (عصام) شقيقها..
ويعيدها عند الرواح
إرهاف واقعنا تجهم ويحه
اين المشارق والإضاءة والصباح !؟
إرهاف لن يجدي البكاءُ عليك .. لن يجدي النواح
إرهافُ اودعناك للرحمن من أكبادنا ...
نبغي الشفاعةَ من جنابك والسماح
** **
إرهاف بالمستشفي تشعرُ بالأمان
إرهاف ترقصُ للطبيب وبين ساحاتِ المكان!
أطفال عنبرها الصغار يصفقون..!
إرهافُ ترقص للجميع
وطبيبها أيضاً يصفق في حنان!
أطفال عنبرها الصغار يرددون :
"ياسودان هنيئاً بالفتح المبين"
"من كوثر نبينا نغرف باليمين"
"وفي الجنات نتلمى وكلّ الخالدين "
عجبي لهم ..!!
أشباحُ أطفال تموتُ ويرقصون !
بالجنة الشهداء رقصاً يحلمون ... وبالحنان
يا وحشتي ..
هي رقصةُ المذبوح من وجع الزمان!
هي رقصةُ الطيرِ المرفرفِ للنعيمِ والجنان
** **
كانت تجودُ بكلِّ ما نعطي إليها بلا جدال
إرهاف تهدي للطبيب فواكهاً ..
فيقول (لا) فتصر تدفنها جزاءاً في يديه
(خذها لرابعة أو منال .. خذها لإبنتك إعتدال)
فيجيبها حسناً لاجلك وإعتدال
ويعودُ بعد قليل مبتسماً ليهديها عصير البرتقال
** **
إرهاف ترقد بالسرير عليلةٌ
(ماما) تشاهدها فتنهمر الدموع
إرهاف تمنعْ أمها سيلّ الدموع!
(أماه لا تبكي عليّْ .. سأموت ان تبكي عليّْ )
غداً ستنطفئ الشموعْ
إرهاف اكبرُ من عقول طفولةٍ ..
فاقت حصافتها الجموع !
والأم تمسح دمعها وتقول
(هيا أضحكي حتي أكفكف للدموع) عجبي لها ..!
إرهاف رغم قساوة الوجع المؤججِ في الضلوع !
إرهاف تختزن الدموع وتبتسم !
إرهاف تختزن الدموع!
** **
إرهاف لم نفرح صباح العيد مثل الآخرين !
حزناً عليك صغيرتي .. لو تعلمين !
إرهاف لم نذبح صباح العيد مثل الآخرين
هي سنةٌ لله نذبحها علي مرِّ السنين
واليوم نتركها فداك حبيبتي
يا قسوة العدم اللعين ياقسوة العدم اللعين !
لا لحم لا حلوى ولا فستان يامحبوبتي
لا شئ مما تشتهي (أيمان) او ما تشتهين
أبتاه يا إرهاف يعجزُ عن شراء البنسلين!
أبتاه يعجزُ عن شراء البنسلين!!!
أين الدراهم تفتديك حبيبتي لتوفر الترياق للداءِ المكين ؟!
والله نسأل أن يكلل سعينا ويتم نعمته عليك وتضحكين
إرهاف لم نشعر بعيد ..
العيد يوم نراك نشوي تمرحين
إرهاف مهجتنا فداك شفاك ربُّ العالمين
** **
إرهاف جاء البنسلين ..
إرهاف نأمل في الشفاء .
والكلُّ يرفعُ .. بالأكف إلي السماء
إرهاف ترشفُ للدواء
لكنه مسخٌ يؤرقها وداء !
غشوا الدواءَ وغلفوا الأوهامَ
بالكرتون باعوها دواء !
عجبي لهم (مافيا) تتاجرُ
في حياة العالمين !
وتدّعي صُنع الدواء !!
قتلوك يا إرهاف (مافيةُ) الدواء
وإرهاف تصرخُ تستغيث ..
إرهاف تجهش بالبكاء
وتمزقُ الأكبادَ من هولِ النداء
فألله كان المستجيب حبيبتي
واختار قربك دوننا ..
طوبي لروحك في السماء
** **
إرهاف التهب الجراح من التورم والرعاف
إرهاف أنت صبورةٌ إرهاف مثلك لا يخاف
كانت بحق شجاعة أقوى من السّْم الزعاف
السّْم يحصدها بكلّ قساوةٍ ..
ليزفها للقبر في زمن الجفاف
لكنها محبوبتي...
زفت الي الرضوان في ثوب الزفاف
** **
إرهاف عفواً عن غيابي عن مقامك
ليلة الحدث الحزين
ماكنت يا إرهاف قربك لحظة الألم اللعين
الوحش يعصرُ جسمك المنهوك وأنت ترددين :
(أماه .. بابا أماه ياأماه ليتك تسمعين )!
والأم قربك تستحيل الي شبح
قد أذهب الحدثُ العظيم ثباتها .. لله من فقد البنين
أماه تؤمنُ باليقين ... أماه يا أرهاف تؤمنُ باليقين
وأنا كساريةِ الجبل..
الصوتُ أسمعه فيعصرني الالم
لكنني مكتوف يا إرهاف من حبلٍ متين
والصوتُ ملء مسامعي
وأجيب عفواً إنها لإرادة القدر المسطر بالجبين
إرهاف عفواً إنني ما غبت عنك تعمداً
لكنه قدري أعذبُ من ورائك كلّ حين
والتف حولك "مصطفي" ورفاقه .. "رابعة وزين العابدين
فهو الملاك بطبِّه وبعطفه .. بالحق زين العابدين
وسعوا بما في وسعهم .. فلهم جزاء المحسنين
إرهاف ينفذُ أمره نرضي ونحمد خاشعين
** **
إرهاف لم أبخل بشئ
فلتمضي أشيائي الثمينة للدواء
إرهاف تثقلني الديون قرضتها ..
أملي أعجل للأميرة بالشفاء
أماه صيغتها فداك حبيبتي ..
يا خيرَ من يفدي ويجزلُ بالعطاء
إرهاف نطمعُ أن نراك طليقةٌ ..
ندعوا ونرفع بالأكف إلي السماء
والحمد لله العظيم بما قضي..
إرهاف اُحتسبتّ فنعم الانتماء
** **
إرهاف أقسم بالإله وعزة النصر المبين
ليلة رحيلك عشتها ما بين أضغاث ودين
كبدي تمزق عندها ... قلبي تحرق بالأنين
كانت كأقسى ليلة في العمر ....
منذ ولاتي حتي بلغت الأربعين
فالعين تدمعُ للحبيب ... تجودُ بالدمع السخين
والقلب يحزنُ درتي .. يهتز بالألم الدفين
والقولُ ما يرضي الإله ... والله يجزي الصابرين
والكلُّ محزونون يا إرهاف مفجوعون .. لكن مؤمنين
** **
لا عطر بعدك يا عروس ... ولا إبتهاج ولا جديد
لا شعر بعد اليوم .. يصدح بالنشيد
كنتِ العواطف بالحروف ... وكنتِ لي بيت القصيد
إرهاف كنتِ مخاض تجربتي علي الدربِ السعيد
والآن ضاعت كلها يادرتي ... ضاع الوليد
** **
إرهاف يا إرهاف إحساسي ... ويا كلّ الطموح
يا نجمَ سعدي في الحياة ... ونشوة الأمل الصبوح
سميت بإسمك كلّ شئ .. ما كنت اكتمُ او أبوح
كنت البراق لمهجتي .. يا صهوة الفرس الجموح
كانت تلازمني خطاك ... بخاطري جسدٌ بروح
تَربْت يداك حبيبتي .. وسلمت من ألم الجروح
ورجعت راضيةً الي جناته .. مرضيةً حفظت بلوح
لن نسخط الأقدار يا إرهاف أبداً لن ننوح
وهناك موعدنا النعيم حيببتي ...
ما بين أنهارٍ وأزهارٍ وأشجارٍ تظللنا ودوح
** **
كان خطب إرهاف يمثل أقسى تجربة تواجهني طوال حياتي وأسأل الله أن لا يذيق طعم هذه التجربة صديق أو عزيز يفقد أى من أبنائه وألا تذق هذه التجربة يا إلهي لأي إنسان وأنت المستعان .