كتبت هذا المقال يوم وفاة فقيدنا الكبير محمد بن مصلح رحمه الله .
تثبت بعض الأحداث عجز اللغة عن استيعاب ما يختلج في النفس من المشاعر , عندما تذيب مرارة الفقد طعم كل الأحرف , و يضرب الذهول كل مراكز الذهن فيصيبها بحال من الشتات , عندما لا تصدق أن الدنيا تعطيك عطاءً سخياً , ثم تنتزعه منك في غفلة .
كل ذلك و أكثر ينطبق على شعوري عند تلقي خبر وفاة شاعر الجنوب العظيم محمد بن مصلح رحمه الله , ذلك الرجل الذي جاء ليكون استثناءً في كل شيء , في شخصه , في تفاصيل حياته , في موهبته , و في موته وجنازته أيضاً .
منذ أن فتحت عيني على الدنيا كان هذا الرجل حاضراً في حياتي كأحب و أقرب أصدقاء والدي حفظه الله , بينهما صداقة تليق بهما كرجلين عظيمين , كان جمع الرجل بين البساطة و الهيبة , أمر يدعو لحبه إلى ما لا نهاية , و تقديره إلى ما لا نهاية .
كنت أعرض عليه بعض محاولاتي الطفولية في الشعر , و كنت أكتب بالفصحى عندما كنت طالباً في الابتدائية ثم المتوسطة , كان يقبلها بكل عطف , رغم افتقادها لكل مقومات الشعر , كتبت قصيدة في رثاء الملك خالد رحمه الله , ناقشني حولها , و منحني الشعور الذي جعلني أتجرأ عليه لأول مرة في حياتي بأن أستغل وجوده في حفل كبير و أطلب منه الرد على قصيدة من قصائده , و ليست أي قصيدة , بل قصيدة من قصائده المعروفة التي تملأ الدنيا و تشغل الناس , ليعتذر مني و يطلب مني بناء قصيدة أخرى , عرضتها عليه ووقف إلى جواري و عرض و احتفى بي لتكون تلك اللحظات جواز عبوري إلى ميدان العرضة .
مواقفي معه أكثر من أن يحصيها مقال , هذا الرجل العجيب الذي كان يثبت أن حضوره لا يضاهى , و غيابه لا يعوض , فالحفلة التي يحضرها تضمن البقاء في ذاكرة من حضر و من لم يحضر , و الحفلة التي يغيب عنها تظل مثار حسرة .
هذا الرجل الذي ينبغي أن يدرس أسلوبه في الإلقاء حتى لذوي المناصب المرموقة , فحضوره الطاغي , و ثقته الراسخة , و قدرته على التواصل مع كل الحضور في لحظة واحدة , أمور ضمنت له تميزاً يفتقده كثيرون يمتلكون مواهب شعرية جبارة تتضائل أمام حضور بن مصلح رحمه الله .
كل جانب من حياة بن مصلح مثير للإعجاب , فهو كريم بحيث لا يفوق كرمه كرم أحد من معاصريه , و شجاع إلى الدرجة التي يحسم فيها المواقف كما يشاء هو دون أن تكسر له كلمة أو يخفض له جناح , متواضع للدرجة التي يندر فيها أن تجده لوحده خالٍ من دائرة كبيرة من المحيطين من شرائح مختلفة من الناس , صاحب انتماء و حمية , و مروءة و شهامة , ربما رمى خلافاته الشخصية مع أكثر من شخص وراء ظهره قائلاً : وش أقول لزهران بكره ؟؟
تعكس كثير من قصائده انتمائه لمنطقته , أرضاً و سكاناً , و تثبت ذلك كثير من قصائده التي تحاكي أفلاماً وثائقية لسرد وقائع تاريخية , أو لتأكيد تجذر الأصل و التفرع التدريجي للقبائل , أما في عرضه للأرض فلا أظن القول بأن قصائده تمثل ( قوقل إيرث )لمنطقة الباحة خاطئة .
و تأتي قصة مرضه رحمه الله , كواحدة من الشواهد على تفرده واستثنائيته , فبالرغم من أن عمره امتد إلى ما يقارب التسعين عاماً , إلا أنه عانى الأمراض منذ أكثر من أربعين عاماً , صابراً , محتسباً , مؤمناً أن للموت ساعته التي كتبها الله , ممارساً لتفاصيل حياته الجميلة بكل شموخ , مستغلاً كل لحظة من حياته ليؤكد أنه بن مصلح , الذي لا يشبهه أحد .
رحل أخيراً رحمه الله , تاركاً ورائه تراثاً من الإبداع و الرجولة و الشهامة , و مثلما امتلأت قصائده بزهران و شدا و نيس , فهو باق في الذاكرة ما بقيت تلك الأسماء , إنا على فراقك سيدي لمحزونون .