كثير من الناس تعاطف مع الرئيس أردوغان ضد الانقلاب الفاشل في تركيا وجعلوا منه بطلاً إسلامياً وشخصية أسطورية حتى نادى البعض بضرورة نقل التجربة التركية كنموذج وسطي ومعتدل ومثالاً يحتذى به في الدول العربية والإسلامية .
لا ريب أن التجربة التركية يمكن أن تكون تجربة رائدة ونموذجية في البلاد التي تعيش غربة الإسلام ولكن لا يمكن أن تكون تجربة وسطية مكتملة الأركان وتحقق المفهوم الصحيح للوسطية والإسلام ، و استنساخها في الدول العربية والإسلامية تفكير يفتقد للفهم الصحيح للإسلام حيث أن تلك الدول تقيم أصلاً شعائر الدين ولا أحد يستطيع منعها لتمَكُّن الإسلام في نفوس شعوبها ، وبعضها قد طبق الإسلام كدستور للدولة والبعض الآخر شرائع الإسلام فيها ظاهرة وإن لم تحكم شرع الله .
فلا يقول عاقل استنساخ التجربة التركية التي تقوم على الحد الأدنى من شعائر الإسلام إلى الدول العربية والإسلامية .
إن التجربة التركية قد تكون رؤية مناسبة لنقل الناس إلى الإسلام في البلاد التي يسيطر عليها التيار العلماني و غابت عنه شرائع الإسلام بالاستفادة من هامش الحريات التي تتيحها أنظمة بعض الدول في التداول السلمي للسلطة في طرح الإسلام كخيار سياسي كما هو حاصل في تركيا .
فتجربة تركيا استطاعت أن تُحدث اختراقاً كبيراً في جسم العلمانية التي سيطرت على تركيا منذ الانقلاب على الخلافة العثمانية في القرن الماضى .
فحزب أردوغان لم يستطع أن يطبق كل ما في دين الله ولكنه استطاع أن يفعل الممكن من دين الله كإعادة فتح المساجد للصلاة بعد أن حولها أتاتورك إلى متاحف ومخازن وأقام الأذان باللغة العربية والسماح للمرأة المسلمة بلبس الحجاب بعد أن كان ذلك ممنوعاً وإحياء محبوب الله في كثير من الميادين .
ويتوقع في السنوات القادمة أن يحدث هذا التدرج في تطبيق الشعائر الإسلامية وأحكامها تحول تركيا إلى التطبيق الكامل لشرائع الإسلام وتعود(الدولة العثمانية) مرة أخرى إلى سابق عهدها كدولة إسلامية حملت هم الإسلام ورفعت رايته في الآفاق عزة وتمكينا .
وما قام به أردوغان والذين سبقوه في الحكم من انتصار لشرائع الإسلام عمل يشكرون عليه ، وهناك من الناس من يعترض على أسلوب أردوغان ويهاجمه بشدة لأنه لم يمنع الخمور والمراقص وصالات القمار .
وأرى أن هذا الهجوم غير مبرر لسبب بسيط وهو أن الرجل غير متمكن وليس له صلاحيات مطلقة في الحكم ولأن قومه لا يريدون ذلك ولو فعل ما نريده من تطبيق كل احكام الشريعة الإسلامية لتعرض للهلاك ولأقيمت له المشانق فيشنق كما شنق سلفه عدنان مرداس .
والدليل على عدم تمكن أردوغان في تطبيق شعائر الإسلام أنه قبل إجازة لبس الحجاب في تركيا أرسل ابنته المحجبة لتدرس في بلاد الغرب لأن القوانين واللوائح الجامعية في بلاده كانت تمنع المرأة المحجبة في الدراسة بجامعاتها .
فالمرحلة التي يعيشها أردوغان تشبه ظروف النجاشى في الحبشة الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم :" لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنَّ بها ملكاً لا يظلم عنده أحد"
وقد أسلم النجاشي ولكن لم يستطع ان يقيم شعائر الإسلام حتي قيل عنه لم يركع لله ركعة لأنه كان في دار كفر نصبه عليها قومها
فلم تكن له قوة لإقامة دين الله والحكم بكل ما بلغه من دين الله فضلاً عن إعلان إسلامه ولهذا قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : " فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب ، قال تعالى :
" وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ"(منهاج السنة 5/114 ) .
فالنجاشي كان ملكا صالحا ينشد العدل وكان يحكم بما مكنه الله في اقامة شرائع الاسلام ومن ذلك تزوج ام حبيبة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها بارض الحبشة عبيد الله وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة.
وعجزه عن تطبيق كل ما بلغه من دين الله فإن ذلك مرده إلى أنه في دار كفر ولا شوكة له فيها ولو أراد أن يفعل ذلك فإن قومه سيمنعونه!!
وفي ذلك يقول ابن تيمية :
" لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان وكذلك ما لم يعلم حكمه فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يصل لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك"
( مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية :19/225 )
ونخلص من ذلك ان ما تعيشه تركيا وحزب العدالة هي نفس الظروف التي عاش فيها النجاشي رضي الله عنه وقال عنه ابن تيمية انه من السعداء كما ذكرنا ذلك
ونكرر مرة اخرى ان النموذج التركي قد يكون مناسبا للدول التي تغيب عنها الشعائر الإسلامية وتحكم حكماً علمانياً بقوة السلاح والنار ..ولكن لا يمكن استنساخها في الدول التى فيها قيم الإسلام متجزرة وبعض الدول تحكم بشرع الله والبعض الآخر لا يحكم بشرعه ولكن لا يمنع من كمارسة الشعائر الدينية .