نحن بحاجة لذكرياتنا من أجل وجودنا. ونحن نمضي إلى قلوبنا عندما نحرك ذكرياتنا، ويتقارب الناس من خلال ذكرياتهم المشتركة. واليوم أكثر من الأمس، تتيح لنا التقنية، بفضل الله ثم وسائل التقنية الحديثة الهاتف والتلفزيون،والانترنت ووسائل التواصل الإلكترونية ووسائطها والوثائق والمحفوظات السينمائية أن ننبش الماضي ونتقاسمه مع الآخرين.
وفي معظم الأحوال، وبمناسبة المتطلبات الاجتماعية، علينا أن نبرهن على ذاكرة قوية لا تخوننا. فنحن نستعين بها غالباً للرد على الأسئلة التي يطرحها علينا الآخرون (أو التي نفترض أنهم قد يطرحونها علينا). وبالتأكيد، إن مثل هذه المتطلبات الاجتماعية تحرض الذاكرة، غير أنها تطلق العنان أحياناً للأمور المكبوتة في حالة الإخفاق، وقد تتمكن تمكناً غريباً من محاصرة ذاكرة بعض الأشخاص الانفعاليين. ومع ذلك، فإن كل مهني يثبت كفاءته في مجال عمله من خلال ما لديه من ذاكرة عن مهنته ويثبت كل شخص وجوده في المجتمع من خلال اعتماده بدرجة كبيرة على ذاكرته. وبهذا نجد أن الذاكرة أداة الاتصال والعمل.
إن القدرة على تذكر الأحداث والتجارب الماضية أساسية في ميادين نشاطنا اليومي. لكن هناك مستويات عديدة للكفاءة الممكنة، فمن المهم اختيار المستوى المراد بلوغه بوعي.
فثمة عدد من الأشخاص الذين يقدمون لنا بعض الأمثلة. فيؤكد آلان شفالييه أن المرء لا يمكنه قيادة شركة إذا كان مصاباً بالنسيان: ((ففي تنظيمات كتنظيماتنا، يحب على المرء أن يقرر، ويقرر سريعاً، بخصوص مسائل مادية ملموسة محددة جيداً. لذلك فمن الضروري امتلاك ثقافة حقيقة في أعمال الإدارة: معارف راسخة، مثلاً، في الحقوق، والتاريخ والاقتصاد، وتقانات الإدارة... فهذه الثقافة قائمة على الذاكرة، وهي وسيلة جمع المعلومات المصنفة المبوبة، وبالتالي الممكن استخدامها)).
سيمون روزس أول رئيس لمحكمة النقض يعترف بأن تذكر بعض الوقائع قد يملي عليه موقفه: ((أنا لا أستعين بالذاكرة بالمعنى الدقيق. بل بالأحرى، هناك مجموعة من الخبرات التي تقودني إلى الاختيار، وهي خيارات هامة، لأن مصير بعض الناس يتوقف عليها)).
إن الصدأ الفكري والبدني ينتابنا ما إن نفقد الرغبة في التعلم. وعلى العكس، إن الابقاء على حب الاطلاع على كل شي هو أفضل ترياق ضد الضجر لضمان أكبر قدر من الانتباه. لأن الذاكرة تابعة رأساً للانتباه الفعال الذي يتجذر في مجموعة الانفعالات. وقبل أن تطلق ذاكرتك للعمل، يجب أن تهيئ مكاناً لها في العقل والقلب.
إن ((قائمة الأسئلة)) هي أداة حب الإطلاع، وهي الخيط الذي يقود إلى الروح المنهجية. والتساؤل هو الميل نحو المعرفة الفعالة للأشياء.
وإذا كانت ((لائحة الأسئلة)) هي أداء حب الإطلاع، فإن مصدر هذا هو التغيير والجدة. ولم يعد ثمة ما يحذر منه إلا التماثل والروتين على صعيد الذاكرة. ومن الهام عدم المبالغة في التكاسل والخمول، ووجوب حيازة أنشطة متنوعة والتقاء مختلف الأشخاص لتأخذ الحياة رونقها وتتضاعف طرائق تداعي الأفكار المتعلقة بالتذكر.
إن حب الاطلاع والرغبة في المعرفة المتنوعة، يولدان مع الطفل منذ ولادته، ويكفي إذاً مواكبة تيار الأفكار. غير أن قواعدنا في آداب السلوك داخل المجتمع قد تعارضت زمناً طويلاً مع هذه الرغبة العفوية، التي ما زالت تعد في معظم الأحيان عيباً شائناً.
فمن الصعب إذاً أحياناً في سن الرشد تربية فضول أهمل وراء الظهر في الطفولة. ومع ذلك، يجب تغيير الإمكانات لكي يبرز اتجاه ما في الحياة. وغالباً ما يذكر في المؤسسات أن أكثر الأشخاص حيوية وقدرة على رد الفعل السريع والأخذ بزمام المبادرة، هم ممن عملوا في الخارج خلال بضع سنوات أو جربوا كثيراً من الدوائر، وكثيراً من المؤسسات، وأحياناً كثيراً من المهن.
وإن جميع هذه المواقف التي تتتابع تضع الدماغ في سياق من المقارنات وتحقيق الحوادث عن طريق المقارنات وتداعي الأفكار، وهذا (أي السياق) ما ينمي نشاطه وقدراته.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية