فجعت العلا يوم أمس برحيل أديبها الأريب،وشاعرها القشيب المربي الفاضل الأستاذ سالم الحداد يرحمه الله عن عمر يناهز الثمانين بعد معاناة طويلة مع المرض..وكأن الراحل يرحمه الله في تفاقم أزمته الصحية الأخير كمن يلوح بالوداع الأخير،وهو الذي كأنه قبل الرحيل ( أزجى لوادي العلا التحية والشكرا ) فقد كانت العلا الأرض والناس بالفعل معشوقته التي أمضى عمره في عشقها وخدمة أهلها على كل الأصعدة وفي مجالات شتى عبر ستين عاما من العطاء المتواصل وطوى القدر بموته صفحة ناصعة البياض من صفحات رجال العلا الأوائل المطرزة بكل جواهر العطاء النفيسة التي ستذكرها الأجيال جيلا بعد جيل بالفخر والشكر والوفاء لأفذاذ الرعيل الأول ممن خدموا العلا وأهلها كل هذه الخدمات الجليلة وتجني العلا اليوم دانيات قطوف تاريخهم المعطاء المخلص الذي لم ينتظروا عليه ثمنا ولاحمدا ولاشكورا..وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولوكانت بهم خصاصة..فتلك كانت سجاياهم النبيلة.
الأستاذ سالم الحداد أشهر من أن يعرف..ليس على صعيد محافظة العلا وحسب..بل على مستوى منطقة المدينة المنورة حيث هو القامة الأدبية..والقيمة التربوية العريقة الضاربة القدم في ستة عقود من عمر العمل الرسمي كأحد أقدم رجال التربية والتعليم والحاضر في المحافل الأدبية والمنابر الشعرية بجانب كونه أيقونة السياحة وعراب الآثار الأول في العلا كأول مؤسس ومشرف على مكتب الآثار في العلا ومسيج بسياج الحماية الأول لمواقعها الأثرية النفيسة من العبث والهدر لقيمها التاريخية قبل أكثر من نصف قرن كان خلالها خير واجهة حضارية مثقفة للعلا التاريخ والحاضر..تعرفت من خلاله على العلا كل الأوساط العلمية الأكاديمية والجهات الرسمية والأوساط الثقافية الأدبية والضيوف من علية القوم والجماهير الزائرة للعلا وكذلك الأوساط الإعلامية السعودية والخليجية والعربية والأجنبية كونه كان يرحمه الله أول صحفي وأول كاتب في الصحف والمجلات عمل كمراسل لعدة صحف وكتب في عدة مجلات من بينها صحف المدينة والبلاد ومجلة اليمامة ومجلة قافلة الزيت ومجلة الجيل ومجلة الفيصل.
كذلك كانت له إطلالات متفرقة بين الصحف والمجلات الكويتية واللبنانية والمصرية ماثله في تلك الإطلالات العديد من مجايليه من الرعيل الأول من أدباء وكتاب العلا يرحم الله الأموات منهم والأحياء.
إلا أن الأستاذ سالم الحداد كان يتمايز عن أقرانه كما يميز كل أديب متعدد المشارب وضروب العطاءات الأدبية المكتسية بفنون جمالية أصيلة من جذور بيئته ومضافة أيضا من انفتاحه على عوالم المعرفة وأطياف الثقافة والأدب..كما كانت قصيدته بحكم اهتماماته الثقافية المتنوعة مابين التاريخ والأدب العربي والتراث والآثار لكل الممالك القديمة التي مرت على العلا عبر 3000 سنة قصيدة سيميائية في عديد من دورينماتها الشعرية ومخضبة بالإحالات التاريخية ومضمخة بدلالات تراثية بيئية تفردت بها طبيعة معشوقته العلا.
هذا بالإضافة للطبيعة الزراعية البستانية الباسقة النخيل وارفة الشجر..الغناء بالخضرة المزهرة المثمرة بأينع الثمر،وكذلك الطبيعة البرية الجبلية والسهلية الوسمية المعشبة روابيها المحيطة بربوع مزارع العلا.
لذلك اكتست شاعرية الراحل الشاعر سالم الحداد بتلك الغلالة من الغنائية الفارهة في نصوصه الشعرية خاصة الوصفية في غزلياته الشهيرة لمعشوقته العلا ويكأن علاه في قصيدته قدت من ربيع أندلسي دائم الخضرة والزهر والثمر..مترفة حضرية رغدة وهي(بنت الريف) وخيوف البساتين وبيوت الطين.
سالم الحداد أيضا من حيث الإلقاء المنبري كان شجيا عميقا مؤثرا بنبرة صوته الرنانة الصافية وأسلوبيته الجميلة من السهل الممتنع في قراءة الشعر المموسق الأقرب للجواهري والبردوني في تسكين الأفعال والمدود في لفظ التراكيب ودمج النبرة المحلية الدارجة للفظ بعض المفردات الفصيحة فتشي بموسيقى حرفية وإيقاع للكلمات غاية في التطريب تقابلها دهشة سماعية مستحقة.
هو بحق شاعر رطب المزاج حاضر الاستدعاء لكل ومضة قد تعطر قصيدته بأريج العبارات الوصفية الزاكية الزكية..عدا عن كونه صاحب قضية بالفعل..عاش حياته مهموما بها عاملا عليها..ألا وهي التسويق والترويج لمعشوقته العلا وكأنها العروس المهيأة للزفاف ليل نهار..وهو ولي أمرها المشغول دوما بالحديث عن حسنها لخطابها..فادرك في غزلها الحسن كله..
حتى أصبح كل من جاء من بعده من شعراء العلا أسيرا لشاعريته لايفلح في تجاوز صوته الشعري وإن اجتهد في الفكاك من قيد قصيدته!
أيضا من مناقب الصوت الشعري في قصيدة سالم الحداد يرحمه الله وعي السارد شبه المكتمل الأدوات السردية على وجه التحديد ( الحركية،والشعورية،والحكاءة ).
ولهذا..ولأكثر من هذا..كان يرحمه الله خطيبا مفوها أيضا على منبر خطب صلاة الجمعة..فجزاه الله خير الجزاء وعظم بالأجر والمثوبة في وفاته كل أسرته وأهالي العلا وكل من عرفه أو سمع به وأحبه من سيرته العطرة.
?وداعية أخيرة للراحل..
من قصيدته(شكرا لوادي العلا) :
لوادي العلا أزجي التحية والشكرا
لإنتاجه الليمون والتمر..والبرا
ففي سهله الغالي تقوم مزارع
نرى عقدها يمتد كالواحة الخضرا
وفيه العيون الساهرات فماؤها
نمير ليروي الحرث كي ينبت البذرا
أحب العلا حبا وأذكر فضلها
كما تذكر الخنساء في شعرها صخرا
فهذي العلا أم الحضارة والوفا
عروس يساق المال من أجلها مهرا
أتاها طريق القاع فازدان وجهها
وحولها للخير فاحتلت الصدرا
بها نشأ العمران في كل جانب
وعمت مياه الشرب البدو والحضرا
وأضحى بها التعليم أرقى تطورا
مدارس عمت عندنا السهل والوعرا
شمالا إذا جئت الشمال وجدتها
تحيط بها الوديان والربوة الحمرا
وإن أنت قد جئت الجنوب رأيتها
سحائب وسم تحمل الدر والخير
وإن شئت ظلا وارفا في ربوعها
عليك بغابات تقي البرد والحر
وإن كنت تهوى التمر أفضل مأكل
فهيا معي للباسقات تجد تمرا
وآثارها صارت مزار لسائح
ومن شك في الآثار فليقصد الحجرا
وليس يمل المرء من منظر العلا
وكم يتمنى أن يعيش بها دهرا
تراها إذا ماجن ليل كأنها
عقود على صدر تضيء له الثغرا
هي السحر للمصطاف والسائح الذي
يراها خيالا أوسيحسبها سحرا
تشم بها بعد الأصيل روائحا
ورودا وريحانا وفلا يلي زهرا
تعطر أجواء العلا بعبيرها
فيعبق فيها المسك عطرا يلي عطرا
وقبل طلوع الفجر في غسق الدجى
يشقشق فيها الطير ينتظر الفجرا
وبعد طلوع الشمس من خدرها ترى
طلائع زوار تجيء لها تترى
يقيم بها السواح وقتا مناسبا
ويقضي بها المصطاف أوقاته الكبرى
ويستمتع الزوار بالجو تارة
وبالمنظر الخلاب فيها تارة أخرى
بلاد جميل والهوى العذري لها
ومن شك في هذا الهوى يسأل العذرا
بثينة في عشق وحب وعفة
يسوق لنا التاريخ سيرتها الكبرى
ألا ليت شعري ( أن أبيتن ليلة )
بوادي القرى (حتى أقيم به شهرا)
التعليقات 2
2 pings
زائر
19/12/2018 في 8:15 م[3] رابط التعليق
كلي فخر بهذا السيد الشاعر الأديب كونه جدي، اللهم اجعلني خير خلف لخير سلف .. رحمك الله رحمة واسعة وأكرم نزلك ووسع مدخلك ونعّمك في جنات الفردوس الأعلى .. وعظم الله أجرنا في فقدك
(0)
(0)
زائر
19/12/2018 في 9:36 م[3] رابط التعليق
التعليق
(0)
(0)