حين نتأمل في سيرة أولئك الذين وهبوا الكلمة حبرًا، والحدثَ ضوءًا، نجد الإعلامي الحقيقي حاضرًا بقلمه، وإن غاب، وبأثره، وإن توارى. بين أوراق الصحافة وعناوينها، وبين المدارس وصفوفها، يقف بعض الأشخاص على تقاطع الحياة المهنية والتعليمية ليقدّموا خلاصة تجربة تستحق التوثيق. هم أولئك الذين شقّوا طريقهم من البدايات البسيطة في القرى، فصنعوا لأنفسهم مجدًا في حروف الصحافة وصوت: الحقيقة.
في مجتمع القرية، حيث النقاء والبساطة، تنمو القيم وتُصقل الشخصيات، وتتشكل البدايات الأولى لرجال المستقبل. وهناك، في ظلال الطفولة، تكتمل ملامح التكوين الأول، ويبدأ الحلم بخطوات واثقة نحو الطموح. وما بين حلمٍ في الطفولة وحقيقةٍ في الكبر، تمر محطات مليئة بالعطاء، في التعليم، في الإعلام، وفي بناء الإنسان.
ضيفنا في هذه الدقائق، نموذجٌ لهذا المسار المتكامل؛ جمع بين مهنة التعليم وشغف الإعلام، وبين تربية الأجيال ونقل الحدث بمهنية ووعي. له في المشهد الإعلامي بصمة، وفي الميدان التربوي وقفة. عمل محررًا في صحيفة الرياض، وكان شاهدًا على تحولات إعلامية وثقافية عديدة.
ضيفنا في الدقائق التالية هو الإعلامي الأستاذ فالح بن فايز الدوسري.
س/ في البداية نرحب بك أستاذ فالح، ونسعد بك ضيفًا في هذا الحوار.. ونبدأ بالسؤال الأول:
كيف كانت ملامح طفولتك؟ وما أبرز الذكريات التي لا تزال عالقة في ذهنك حتى اليوم؟
ج/ شكرًا لكم على هذه الاستضافة الكريمة، وسعيد أن أكون معكم اليوم.
طفولتي كانت في أحضان القرية، بكل ما تحمله من صفاء وبراءة وبساطة. كانت الطفولة آنذاك خليطًا بين أحلامٍ واسعة نرسمها بقلوبنا، ورغباتٍ صغيرة نحاول تحقيقها بوسائلنا البسيطة، وواقع نعيشه يوميًا، تحدده معطيات القرية وتقاليدها. من الذكريات العالقة في ذهني بشكل دائم هي لحظات الانطلاق من المدرسة في عطلة نهاية الأسبوع، حيث كانت لقاءاتنا مع الأقران، واللعب الحر، والرحلات البرية الصغيرة، تشكل لنا عالمًا خاصًا مليئًا بالفرح والمغامرات البريئة.
س/ من كان قدوتك في طفولتك؟ ولماذا تأثرت به؟
ج/ قدوتي الأولى كان والدي –رحمه الله– لما كان يتمتع به من رجاحة عقل ولا، وقوة في الشخصية، ومكانة بين أفراد مجتمعه. كان حازمًا عند المواقف، عطوفًا في بيته، محبوبًا من الجميع. تلك الصفات رسخت في ذهني صورة للرجل الذي يجب أن أكون عليه في المستقبل، وتعلّمت منه الصبر، وتحمل المسؤولية، وحسن الخلق.
س/ ما هي الألعاب أو الهوايات التي كنت تمارسها في صغرك؟
ج/ كنت أهوى الرسم، وكان لدي شغف كبير بالخط العربي، وكنت أُقلد أنواع الخطوط وأحتفظ بأوراقي وكأنها كنوز. أيضًا كانت رحلات البر جزءًا أساسيًا من حياتي، نتجه مع الأصدقاء أو العائلة لاستكشاف الصحراء، وجمع النباتات، أو مجرد الاستمتاع بجو الطبيعة. هذه الهوايات ساهمت في تشكيل ذائقتي الفنية، وجعلتني أكثر ارتباطًا بجماليات الحياة.
س/ كيف كانت العلاقة بينك وبين أسرتك وأقرانك في الحي أو القرية؟
ج/ العلاقة كانت قريبة جدًا، فالقرية مجتمع صغير، يعرف فيه الجميع بعضهم البعض. نحن كنا كعائلة واحدة، نتزاور ونتعاون ونتشارك في المناسبات والأفراح وحتى الأزمات. علاقتي بأقراني كانت مليئة بالأنس، وكنا نعيش تفاصيل الحياة اليومية كأصدقاء مقربين نتقاسم الضحكات واللعب والدروس وحتى الأخطاء.
س/ هل تتذكر أول يوم دخلت فيه المدرسة؟ صف لنا مشاعرك آنذاك.
ج/ نعم، لا أنسى ذلك اليوم أبدًا. كان يومًا مهيبًا بالنسبة لي، مليئًا بالرهبة والدهشة. دخلت إلى مجتمع جديد تمامًا، طلاب لا أعرفهم، معلمون جدد، وبيئة مختلفة. كنت أشعر بالخوف والتوتر، لكنها لحظة فاصلة في حياتي، تعلمت فيها كيف أواجه الجديد، وكيف أتأقلم مع التغيير. تذكرت حينها نصائح والدتي أن أكون شجاعًا، وأن أرفع رأسي وأستقبل يومي بثقة.
س/ في أي مدرسة بدأت مشوارك التعليمي؟ ومن هم أبرز المعلمين الذين كان لهم تأثير فيك؟
ج/ بدأت دراستي في المدرسة الفيصلية الابتدائية بمحافظة الخرمة، وكان لها دور كبير في تعليمي وتكويني. من المعلمين الذين لا أنساهم الأستاذ مسلم بن ناصر السبيعي –رحمه الله– لما كان يمتلكه من حزم واهتمام بتفاصيل الطلاب، وكذلك الأستاذ صالح التويم، الذي غرس فينا حب العلم والانضباط والالتزام في كل شيء.
س/ ما المرحلة الدراسية التي تعتبرها الأجمل أو الأصعب في حياتك؟ ولماذا؟
ج/ المرحلة الثانوية كانت هي الأصعب والأجمل في ذات الوقت. أصعب لأنها تمثل مفترق طرق، وفيها تتحدد الملامح الأولى لمستقبلك، ويبدأ التحدي الحقيقي. وأجمل لأنها كانت بوابة الأمل، وشهدت أكثر لحظات النضج والتفكير العميق حول ما أريد أن أكون، وفيها بدأت تتشكل ملامح طموحي الجامعي والمهني.
س/ هل واجهت تحديات خلال دراستك؟ وكيف تعاملت معها؟
ج/ نعم، أبرز التحديات كانت في التوفيق بين الدراسة ومساعدة والدي في أعماله. أيضًا، كنت في القسم العلمي، وكانت المواد تحتاج إلى جهد ومتابعة مستمرة. ولكني تعلمت أن التخطيط والمثابرة يصنعان الفرق. كنت أوازن بين الواجبات، وأضع جدولًا خاصًا لدراستي، وأتسلح بالأمل والرغبة في النجاح.
س/ ما التخصص الذي اخترته في الجامعة أو المعهد؟ وما الذي دفعك لاختياره؟
ج/ اخترت تخصص الكيمياء، لأنه كان يعكس ميولي منذ الصغر، فقد كنت أحب التجارب والمختبرات والعلوم التطبيقية. شعرت أن الكيمياء تفتح آفاقًا كثيرة أمامي، سواء في التعليم أو في الحياة المهنية.
س/ كيف كانت علاقتك بزملائك في المرحلة الجامعية أو المهنية؟
ج/ كانت علاقة ود واحترام، جمعتني بزملائي صداقات لا تزال مستمرة إلى اليوم. كنا نحرص على العمل الجماعي، وتبادل الخبرات، والوقوف مع بعضنا البعض في التحديات الدراسية والمهنية، مما أكسبني خبرات اجتماعية وإنسانية غنية.
س/ متى كان أول رمضان تصومه كاملاً؟ وكيف كانت تجربتك الأولى مع الصيام؟
ج/ أول رمضان صمته كاملاً كان عام ١٣٩٣هـ، وكان الصيف شديد الحرارة. كانت تجربة صعبة في البداية، لكن مع تشجيع الأهل ورغبة داخلية مني في الأجر، استطعت أن أكمله. تلك التجربة زرعت في داخلي معنى الصبر وقوة الإرادة، وعلّمتني الكثير عن العبادة والروحانية.
س/ ما الذكريات التي لا تُنسى لك في شهر رمضان أيام الطفولة؟
ج/ من أجمل الذكريات هي لحظات الإفطار الجماعي في الحي، والفرحة بصوت المدفع أو أذان المغرب، وتحلقنا حول مائدة بسيطة لكنها مليئة بالحب. أيضًا كنا ننتظر المساجد لتبدأ التراويح، ونتسابق للذهاب إليها. كل شيء كان له طابع خاص، من السهر، إلى الزيارات، إلى جلسات السمر الرمضانية.
س/ كيف كانت أجواء الإفطار والسحور في بيتكم قديمًا؟
ج/ كانت أجواء رمضانية بامتياز، يغلب عليها الطابع الروحاني. كنا نحرص على الصلاة وقراءة القرآن. مائدة الإفطار بسيطة، لكن مليئة بالبركة. لا مكان فيها للتلفاز أو الملهيات. نمط الحياة في رمضان لم يكن يختلف كثيرًا عن بقية الأيام من ناحية الجدية، لكن القلوب كانت أكثر قربًا لله.
س/ هل كنت تشارك في صلاة التراويح أو الأنشطة الرمضانية في الحي أو المسجد؟
ج/ نعم، وبكل تأكيد. صلاة التراويح والقيام كانت ركنًا أساسيًا من رمضان، وكنا نحرص على التواجد مبكرًا في المسجد. أيضًا كنا نشارك في خدمة المصلين، وتوزيع التمر والماء، وكان ذلك يشعرنا بانتماء جميل للمجتمع.
س/ من وجهة نظرك، ما الفرق بين رمضان في الماضي ورمضان في الحاضر؟
ج/ الفرق كبير، فقد تغيّر نمط الحياة كثيرًا. في الماضي، كان التركيز على الطاعات والعادات البسيطة، أما الآن فتغيرت الجداول بسبب العمل والدراسة، وظهرت مغريات كثيرة. ومع ذلك، تبقى الروح الرمضانية حاضرة في القلوب، وإن اختلفت مظاهرها.
س/ ما هي المناصب التي تقلدتها خلال مسيرتك الوظيفية والعمل الإداري؟
ج/ بدأت معلمًا، ثم أصبحت وكيلاً للمدرسة، ثم انتقلت إلى الإشراف التربوي، وتحديدًا مشرفًا للإعلام التربوي، وهو مجال وجدت فيه متعة كبيرة لتقاطع ميولي مع رسالتي التربوية.
س/ ما أبرز المهام التي كنت تتولاها في كل منصب؟
ج/ في التعليم، كنت مهتمًا بالنشاط المدرسي وتطوير المناهج. أما في الإشراف التربوي، فكنت أتابع تقارير المدارس، وأعمل على دعم الإعلام المدرسي، وتنظيم الفعاليات، وتوثيق الأنشطة بالصوت والصورة.
س/ هل كان هناك منصب أو مهمة تشعر بأنها كانت الأقرب إلى ميولك وقدراتك؟ ولماذا؟
ج/ الإشراف التربوي في المجال الإعلامي كان الأقرب، لأنه يجمع بين خبرتي التربوية واهتمامي بالإعلام، فوجدت نفسي أعمل بشغف، وأقدّم من خلاله رسائل إيجابية عن التعليم والميدان المدرسي.
س/ من هم الأشخاص الذين كان لهم أثر إيجابي في مسيرتك الإدارية؟
ج/ كانت تجربتي ميدانية، ولذلك كان التأثير الأكبر يأتي من الزملاء في الميدان، سواء قادة المدارس أو الزملاء المعلمين، الذين كان لتعاونهم دور كبير في تيسير المهام وإنجاحها.
س/ ما أبرز القرارات التي اتخذتها خلال عملك، وتشعر بأنها تركت أثرًا إيجابيًا؟
ج/ من أهم القرارات أن أوازن بين التعليم والعمل الإعلامي، وأن أطور نفسي وأبحث عن مجالات تحقق ذاتي، وهذا ما جعلني أعيش تجربة مهنية متكاملة.
س/ هل واجهت مواقف صعبة أو ضغوطًا في عملك الإداري؟ وكيف تعاملت معها؟
ج/ لا أذكر أنني واجهت صعوبات كبيرة، لأن بيئة العمل كانت متعاونة، والميدان التربوي بطبعه يُقدّر الجهود، ومع العمل بروح الفريق كانت أغلب التحديات تُحل ببساطة.
س/ ما هي أبرز الأكلات الشعبية قديمًا في رمضان؟
ج/ كانت أكلات السحور في رمضان تتميز بالتنوع، ومن أبرزها: العصيدة، القرصان، المرقوق، والتمر باللبن. كانت الوجبات شعبية، لكنها صحية، ونشعر بعدها بالنشاط والخفة طوال النهار.
س/ بعد التقاعد، هل افتقدت بيئة العمل؟ وكيف ملأت الفراغ الذي تركه التوقف عن الوظيفة؟
ج/ لم أشعر بالفراغ، لأنني كنت قد أسست لنفسي مجالًا إعلاميًا أعمل فيه منذ سنوات. الإعلام أخذ حيزًا كبيرًا من وقتي واهتمامي، ووجدت فيه استمرارًا لعطائي، ومجالًا جديدًا للتأثير
ختام اللقاء:
في ختام هذا اللقاء الممتع، لا يسعنا في صحيفة أضواء الوطن إلا أن نتقدم بخالص الشكر والتقدير للإعلامي الأستاذ فالح بن فايز الدوسري، على ما تفضّل به من حديث ثري، وذكرياتٍ نابضة، وتجارب مهنية مميزة، نستلهم منها روح الإصرار والعطاء. نسأل الله له دوام التوفيق، ومزيدًا من النجاح في مجاله الإعلامي، وأن تبقى رسالته حاضرة في ذاكرة الأجيال.