في زمنٍ كان الإعلام فيه حكرًا على فئة محددة، انطلق شاب بدوي من عمق الصحراء، حاملاً شغف التوثيق، وعاشقًا للقصيدة، ومؤمنًا بحق البادية في أن يكون لها صوتها الحاضر في المشهد الإعلامي. بدأ مسيرته بتسجيل قصائد الشعراء على أشرطة الكاسيت، ثم تدرج إلى عالم التحرير الصحفي، حتى أسس أحد أبرز المنابر المهتمة بالتراث الشعبي.
هو الإعلامي والشاعر مبارك بن سيف الرجباني الدوسري، الذي فتح قلبه في هذا اللقاء الرمضاني لـ”أضواء الوطن”، متحدثًا عن بداياته وتحوّلات الإعلام، وذكرياته في رمضان بين البادية والجبهة، ومن الكلمة إلى الصورة، ومن الورق إلى الفضاء الرقمي.
حديث الذكريات ما قبل الإفطار
تحدث الرجباني عن نشأته في بيئة بدوية محافظة، غرست فيه حب الصيام والصلاة منذ سن مبكرة.
وذكر أن ليالي رمضان كانت عامرة بالتراويح والسمر الذي يختلط فيه الحديث عن السيرة والشعر، مشيرًا إلى أن إعداد القهوة على الحطب وتحميص البن وطحنه في “النجر” كان طقسًا رمضانيًا لا يُنسى.
البدايات الإعلامية
استعرض الرجباني أولى خطواته في الإعلام حين بدأ بتوثيق القصائد على أشرطة الكاسيت في المرحلة الابتدائية، مدفوعًا بإحساس داخلي بضرورة حفظ موروث قبيلته.
وأضاف أنه عمل لاحقًا في جريدة المدينة والشرق الأوسط ومجلة مقناص، ثم أسس في عام 2006 قناة “الصحراء”، كأول منبر متخصص بالإعلام البدوي، مؤكدًا حصوله على تأهيل مهني من معهد الجزيرة عام 2007، كأول إعلامي شعبي يتلقى تدريبًا رسميًا.
بين الإعلام المرئي والورقي
يرى الرجباني أن الإعلام المرئي أكثر تأثيرًا وانتشارًا، حيث تُوصل الصورة والصوت الرسالة بسرعة أكبر، في حين أن الصحافة الورقية رغم مكانتها الفكرية، إلا أن حضورها تقلص مع التحول الرقمي.
عن التحديات والبدايات الذاتية
أفاد أن أكبر التحديات كانت في كسر الصورة النمطية عن الإعلامي البدوي، مشيرًا إلى أنه شق طريقه من مذيع إلى نائب مدير عام لقناة الصحراء دون دعم مؤسسي، وإنما بجهده الذاتي وإصراره.
حول مهنية الإعلام اليوم
نوّه إلى أن العمل الإعلامي سابقًا كان يرتكز على المصداقية والخبرة، بينما اليوم أصبح مفتوحًا للجميع عبر وسائل التواصل.
وأضاف: “نحن قدّمنا إعلامًا نقيًا منطلقًا من المجتمع، أما الآن فالجمهور هو من يُميّز الجيد من الرديء”.
الإعلام في الأزمات
و بيّن أن من أبرز محطاته الميدانية تغطيته لـ”عاصفة الحزم” عبر برنامج “من قلب العاصفة”، حيث وثّق مشاهد من ميادين نجران وجيزان، معتبرًا تلك التجربة من أغنى محطات حياته الإعلامية.
أثر البادية في شخصيته الإعلامية
أبان أن البيئة البدوية شكّلت شخصيته المهنية، مغروسة فيها قيم الكرم و البساطة، مضيفًا أن استخدامه للهجة البدوية في برامجه أسهم في وصوله إلى قلوب المتلقين بصدق.
النجاح بين الموهبة والتأهيل
أكد الرجباني أن الموهبة لا تكفي وحدها، بل يجب أن تُدعم بالتدريب والثقافة والممارسة الميدانية، مشيرًا إلى أن الحس الإعلامي لا يأتي فقط بالشهادات بل بالتجربة الصادقة.
عن التجربة الميدانية
استحضر أن البث المباشر كان من أبرز ما صقل مهاراته ، مضيفًا أن التفاعل مع ضيوف من بيئات متعددة، والتعامل مع المواقف الطارئة، ساعد في تطوره الإعلامي.
الحياد والاحترافية
وشدد على أهمية الالتزام بالتغطية المهنية المحايدة، قائلاً إن المذيع المحترف يجب أن يكون متيقظًا ومتحكمًا في مجريات الحوار، ويعرف متى ينهي النقاش إن خرج عن إطاره.
الصورة والكلمة
يرى أن الصورة تختصر الرسالة، لكن الكلمة تخلّد المعنى، مضيفًا أن جمعهما يحقق التأثير الأكبر، ولهذا حرص أن تكون برامجه مزيجًا من الكلمة المؤثرة والصورة المعبرة.
الشخصيات المؤثرة
ألمح إلى أنه لم يتأثر بشخصية إعلامية بعينها، بل سعى لأن يكون هو الصوت الذي يمثل البادية، ويعكس صورتها في الإعلام.
الكتابة والتوثيق منذ الطفولة
ذكر أنه امتلك مسجلًا وكاميرا منذ صغره، وكان يوثق القصائد والمناسبات، من منطلق شعوره بالواجب تجاه إرث قبيلته.
التحصيل الدراسي و توجهه الإعلامي
أوضح أن ميوله نحو الأدب و التاريخ واللغة العربية ساعدت في بناء خلفيته الثقافية، معتبرًا أن من يُتقن هذه الجوانب يستطيع التعبير الإعلامي بأسلوب مؤثر وعميق.
⸻
الرمضانيات والبداوة: الذاكرة الحيّة
استعاد الرجباني أجواء رمضان في البادية، مؤكدًا أنها كانت روحانية نقية، تُقام فيها صلاة الليل جماعيًا ويُعد فيها الطعام بمشاركة الجميع.
وأضاف أنه يفتقد التكبير الجماعي بعد الصلوات، وأجواء الإفطار البسيطة والزيارات المفتوحة.
وأشار إلى أن العشر الأواخر، والتي كانت تُعرف بـ”السَّمرة”، كانت تُحيى بقيام طويل لا يتخلف عنه أحد.
وذكر أن السمن البري و اللقط من الأكلات الرمضانية المرتبطة بذاكرته، كما أن إعداد القهوة و السحور كان يتم وفق طقوس تشارك فيها نساء العائلة.
وأكد أن المطبخ الشعبي يمثل هوية أصيلة يجب توثيقها و تعليمها للأجيال الجديدة.
⸻
العيد في الذاكرة: فرح وبساطة
وصف الرجباني أجواء العيد بأنها كانت مفعمة بالفرح، حيث الملابس الجديدة والعرضة وزيارات الأقارب، وتوزيع الفطرة فجرًا لإدخال السرور على المحتاجين.
أشار إلى أن أيام العيد كانت تُقضى بالغداء الجماعي والألعاب البدوية، مردفًا أن الأطفال كانوا يرددون أهازيج خاصة ويستقبلون الحلوى.
وتمنى عودة عادة الغداء في البر، لما تحمله من قيم التلاحم والتواصل بين الأجيال.
الخاتمة
واختتم الرجباني هذا اللقاء بتأكيده أن الإعلام هو رسالة و مسؤولية، وأن صوت البادية يستحق أن يصل كما هو: نقيًّا، صادقًا، أصيلًا.
وفي ختام هذا اللقاء، نسلّط الضوء على تجربة ملهمة لإعلامي حمل صوته من عمق البادية ليعبُر به إلى المشهد الخليجي، صوتًا وأثرًا.
الإعلامي والشاعر مبارك بن سيف الرجباني الدوسري لم يكن مجرد اسم، بل صانع تجربة و مؤسس مدرسة إعلامية بدوية استثنائية، جمع فيها بين الكلمة و الصورة، و الموهبة والموقف، والانتماء و الرسالة.
نيابةً عن صحيفة “أضواء الوطن”، نرفع له خالص الشكر والتقدير، متمنين له دوام التوفيق، ومزيدًا من الحضور المؤثر في ساحة الإعلام والثقافة.