
شهر رمضان المبارك ليس مجرد فترة زمنية للصيام والعبادة، بل هو تجربة حياتية متكاملة تعكس القيم الأصيلة والتقاليد العريقة التي توارثتها الأجيال. وبينما تغيرت الحياة بشكل جذري في العصر الحديث، تبقى ذكريات رمضان في الماضي زاخرة بالدروس والعبر، حيث عاش الناس هذا الشهر بروح البساطة والقناعة بعيدًا عن تعقيدات المدنية الحديثة.
في هذا الحوار، نلتقي بالأستاذ الدكتور محمد بن عبد العزيز الفارس السبيعي، الأكاديمي المتخصص في الفقه المقارن، الذي حظي بمسيرة علمية حافلة، شملت التدريس في عدة جامعات سعودية ومصرية، وشغل مناصب أكاديمية بارزة، كان من أهمها عمادة كلية المعلمين ببيشة، والإشراف على فرع جامعة الطائف بمحافظة رنية.
في حديث الذكريات، يأخذنا الدكتور السبيعي في رحلة عبر الزمن، نستعيد فيها أجواء رمضان في الماضي، من الصيام والتراويح إلى التقاليد والعادات الاجتماعية. كما نتعرف على مسيرته العلمية والمهنية التي ساهمت في بناء رؤيته الفكرية والأكاديمية.
⸻
نص الحوار
س / كيف كان رمضان في طفولتك؟
بدأت أعي تفاصيل رمضان عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري. كان ذلك في زمن لم تكن فيه الكهرباء متوفرة، ولم تكن هناك وسائل تبريد حديثة، مما جعل الصيام أكثر مشقة وصعوبة، خاصة عندما كان رمضان يأتي في فترة “الكنة”، التي تُعد من أشد فصول السنة حرارة.
كان كبار السن يلجأون إلى وسائل تبريد تقليدية، مثل حفظ الماء في الجابية، واستخدام الحوض، والجلوس تحت ظلال النخيل الكثيفة لتخفيف حرارة الجو. ورغم هذه الظروف، كان الناس يتحلون بالصبر والرضا، ويتعاملون مع الصيام كعبادة تُعزز الإيمان والتكاتف الاجتماعي.
س / كيف كانت مائدة الإفطار والسحور؟
رغم بساطة الحياة، كانت مائدة الإفطار غنية بالعناصر الغذائية. كانت الوجبات الأساسية تتكون من القهوة، والمريس، والسنبوسة، وهي أطعمة تمنح الطاقة وتعوض فقدان السوائل.
أما وجبة السحور، فكانت تعتمد على الكبسة، الفتة، المراقيش، والإيدامات المختلفة، والتي كانت والدتي – حفظها الله – تحرص على إعدادها بحب. لم يكن هناك إسراف أو تنوع كبير كما هو الحال اليوم، لكن الطعام كان صحيًا ومشبعًا.
س / كيف كنتم تعرفون مواعيد الإفطار والسحور؟
كان هناك مدفع رمضان، الذي يُطلق عند الإفطار والسحور، وكان الجميع يترقب صوته بشغف وفرح. كما كنا نعتمد على المذياع لمعرفة المواقيت، بالإضافة إلى أصوات المؤذنين في المساجد، التي كانت تملأ الأجواء بالسكينة والخشوع.
س / كيف كانت أجواء صلاة التراويح؟
كانت المساجد بسيطة، ولم تكن مضاءة بالكهرباء، فكنا نعتمد على لمبات الديزل التي تحتاج إلى تعبئة مستمرة. كان الإمام يقرأ من المصحف مباشرة، وكان الجميع يحرصون على الصلاة جماعة، رغم صعوبة الظروف.
كانت الأجواء الرمضانية ممتلئة بالروحانية، وكان الناس يتنافسون على الصفوف الأولى، وكان الأطفال يحرصون على حضور الصلاة مع ذويهم، مما جعل روح الجماعة والتلاحم الاجتماعي أمرًا أساسيًا في ذلك الوقت.
س / كيف كانت الاستعدادات لعيد الفطر؟
كان للعيد فرحة خاصة، مختلفة تمامًا عن أجواء اليوم. بمجرد الإعلان عن قدومه، كانت النساء تبدأ في تنظيف المنازل وصناعة الحلويات، بينما كان الرجال يطلقون الأعيرة النارية من المرتفعات، ليُعلنوا عن حلول العيد.
بعد صلاة العيد، كان الجميع يتبادلون الزيارات، وتُوزع العيديات على الأطفال، الذين كانوا يرتدون ملابسهم الجديدة بفخر وسعادة، ويجوبون البيوت لاستقبال الحلوى والنقود.
س / كيف تصف العلاقات الاجتماعية في ذلك الزمن؟
كانت المجتمعات أكثر ترابطًا، والجيران كانوا بمثابة عائلة واحدة. لم يكن هناك انشغال بالحياة المادية كما هو الحال اليوم، وكان الناس يتشاركون وجبات الإفطار، ويتعاونون في مختلف أمور الحياة، وكان كل فرد يشعر بمسؤوليته تجاه الآخرين.
س / كيف تنظر إلى قدسية رمضان؟
رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب، بل هو شهر للتقرب إلى الله، وتعزيز العلاقات الاجتماعية، وممارسة العطاء والتسامح. قال الله تعالى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن”، وهذه القدسية تتجلى في الصلاة، وقراءة القرآن، وصلة الرحم.
المسيرة العلمية والمهنية
س / كيف كانت رحلتك في طلب العلم؟
درست في مدرسة الوثالين رغم بُعدها عن قريتي، ثم طلب والدي نقلي إلى إحدى مدارس المظيلف بمحافظة القنفذة. بعد ذلك، التحقت بـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – فرع أبها، حيث درست العلوم الشرعية وتخرجت عام ١٤٠٦هـ.
س / كيف كانت رحلتك في الدراسات العليا؟
بعد تخرجي، التحقت بـ المعهد العالي للقضاء وتخرجت عام ١٤١٠هـ، ثم حصلت على الماجستير من جامعة الأزهر، وسجلت رسالة الدكتوراه في كلية الشريعة بجامعة الأزهر القديمة، ثم أكملت دراستي في معهد القضاء العالي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
س / كيف بدأت مسيرتك الأكاديمية؟
عملت محاضرًا في كلية المعلمين ببيشة، ثم توليت عمادة الكلية، وبعدها أشرفت على فرع جامعة الطائف في رنية لعدة سنوات. ثم تفرغت للبحث العلمي، وعدت إلى التدريس كأستاذ مشارك في الفقه المقارن، حتى تقاعدت.
ختام اللقاء
في نهاية هذا الحوار، لا يسعنا إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ الدكتور محمد بن عبد العزيز الفارس السبيعي على هذا الحديث الشيق والممتع، الذي استعرض فيه ذكرياته عن رمضان في الماضي، وأثره في تشكيل الهوية الاجتماعية والدينية، كما شاركنا مسيرته العلمية والمهنية التي كانت حافلة بالبذل والعطاء.
جزاه الله خير الجزاء، وبارك في علمه وعمله، ونسأل الله أن يعيد علينا وعليه هذا الشهر الفضيل بالخير والبركات.