
يظل شهر رمضان المبارك علامة فارقة في ذاكرة المجتمعات، يحمل معه أجواءً روحانية وتقاليد اجتماعية راسخة، تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل. بين الأمس واليوم، تغيّرت الكثير من المظاهر، لكن تظل بعض القيم والعادات الرمضانية محفورة في وجدان من عاصروا الزمن القديم، حيث كانت الحياة أبسط، والمجتمع أكثر تماسكًا، والعبادة تحفّها الطمأنينة والسكينة.
وفي هذا الحوار، نسلّط الضوء على ملامح رمضان في الماضي من خلال تجربة شخصية لأحد الشخصيات الإعلامية و التربوية البارزة، وهو الأستاذ سمّاح سالم الرشيدي، المستشار الصحفي الذي يمتلك سجلًّا حافلًا في الإعلام والتعليم.
وُلد الرشيدي عام 1376هـ في روض ابن هادي بمنطقة حائل، و حصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى ، مما أهّله ليشغل مناصب متعددة في قطاع التعليم، بدءًا من معلم، ثم مدير مدرسة، وصولًا إلى مشرف تربوي و مستشار تعليمي للعديد من المؤسسات التعليمية.
لم يقتصر نشاطه على المجال التربوي، بل امتد إلى الصحافة ، حيث بدأ رحلته الإعلامية منذ سن مبكرة من خلال الإذاعة المدرسية و الصحف المدرسية، ثم واصل مسيرته الصحفية في عدد من المنابر الإعلامية، حتى أصبح مستشارًا صحفيًا لرئيس تحرير صحيفة “أضواء الوطن”.
في هذا اللقاء، نعود معه إلى ذكرياته الرمضانية الممتدة لأكثر من خمسين عامًا، لنتعرف على ملامح الحياة الرمضانية في المجتمع الريفي، وكيف كان الناس يستقبلون الشهر الكريم،
و يتفاعلون مع أجوائه، قبل أن تتغير الحياة و يطرأ عليها التطور الحديث.
ضيفناً في هذا الحوار: الأستاذ سمّاح سالم خليف الرشيدي.
⸻
ذكريات الطفولة واستقبال رمضان
س: بداية، حدثنا عن ذكرياتك الأولى مع شهر رمضان، و كيف كان الاستعداد لاستقباله في الماضي؟
ج: منذ طفولتي، كان استقبال رمضان يتميّز بأجواء عامرة بالفرحة والترقب، حيث يجتمع الكبار والصغار لمراقبة الهلال، وإذا ثبتت رؤيته، تعمّ الفرحة أرجاء البلدة، فتنطلق التهاني، ويبدأ الناس في تجهيز مستلزمات الشهر الفضيل. كان المسجد هو مركز الإشعاع الديني، حيث يتوافد إليه الجميع لأداء الصلوات والاستماع إلى دروس الفقه والتفسير. أما المنازل، فكانت تعجّ بالحركة استعدادًا لتحضير الأطعمة الخاصة برمضان، التي تعكس روح الكرم والتلاحم الاجتماعي.
⸻
تجربة الصيام في سن مبكرة
س: كيف كانت تجربتك مع الصيام لأول مرة، و كيف كان المجتمع يشجّع الصغار على هذه العبادة؟
ج: بدأت الصيام في سن مبكرة وسط مجتمع ريفي متماسك ، حيث كانت الأسرة و المجتمع يلعبان دورًا كبيرًا في تحفيز الأطفال على الصيام. لم يكن الصيام سهلاً على الأطفال، خاصة في الأجواء الحارة، لكن الأهل كانوا يشجعوننا بالمكافآت البسيطة و الكلمات التحفيزية. كنا نتنافس فيما بيننا لنثبت قدرتنا على الصيام، وكان الكبار يمدحون من يصوم يومًا كاملًا، مما كان يشجّعنا على مواصلة الصيام برغبة وسعادة.
⸻
عادات رمضانية متوارثة
س: ما أبرز العادات الرمضانية التي كانت تميز مجتمعكم في الماضي؟
ج: كانت الأجواء الرمضانية مليئة بالقيم الأصيلة، ومن أبرزها عادة تبادل الأطعمة بين الجيران، حيث يحمل الأطفال أطباق الطعام قبيل الإفطار إلى منازل الجيران. هذه الأسرة ترسل طبق “الجريش”، وتلك تبادلها “المرقوق”، وأخرى تقدم “حساء الشعير”، في مشهد يعكس روح التعاون والتكافل. كما كانت موائد الإفطار تُقام في المساجد لاستضافة الصائمين وعابري السبيل. وكانت المجالس الليلية تزخر بالعلم والتلاوة، حيث يتصدر كبار السن والعلماء جلسات البلدة، ويتحدثون عن السيرة النبوية والتفسير والحديث، إلى جانب إلقاء القصائد الشعرية وسرد الحكايات التراثية.
⸻
صعوبات الصيام قبل دخول الكهرباء
س: كيف كان الناس يتغلبون على صعوبة الصيام في ظل غياب وسائل التبريد والكهرباء؟
ج: كان الصيام في الماضي أصعب بكثير مما هو عليه اليوم، خاصة في الأيام الحارة، حيث لم تكن هناك وسائل تبريد حديثة. كنا نلجأ إلى الكهوف وظلال الأشجار والمجالس المفتوحة داخل البيوت لتخفيف الحرارة. كما كنا نعتمد على “الزير” و”القِرب” لتبريد الماء، وكان ذلك له نكهة خاصة، إذ كان الماء البارد من “القربة” يُعتبر من أساسيات الإفطار. كان البعض يرشّ الشراشف بالماء ليستمتع بنسيم الهواء البارد أثناء النوم، خاصة في ليالي الصيف الحارة.
⸻
الحياة اليومية و الدوام في رمضان
س: كيف كانت الحياة اليومية خلال رمضان قديمًا؟
ج: كانت الحياة تستمر بشكل طبيعي، حيث لم يكن هناك تخفيف في ساعات الدوام كما هو الحال اليوم. كان العمل يبدأ مع شروق الشمس، ويستمر حتى قبيل الظهر، ثم يأخذ الناس قسطًا من الراحة حتى صلاة العصر، لتعود بعدها الحركة في الأسواق والمنازل استعدادًا للإفطار. كانت الأجواء الرمضانية تبدأ فعليًا بعد المغرب، حيث يجتمع الجميع حول موائد الإفطار، ثم يتجهون إلى صلاة التراويح، وبعدها تبدأ الجلسات الرمضانية التي تجمع أهل البلدة.
⸻
البرامج الرمضانية والإذاعة
س: كيف كان تأثير الإذاعة والبرامج الدينية في ليالي رمضان؟
ج: كان المذياع هو نافذتنا إلى العالم الخارجي، وكنا نجتمع حوله بعد الإفطار لمتابعة برامج مثل “أم حديجان” الذي كان يقدمه الفنان الراحل عبد العزيز الهزاع. ثم نستمع إلى صلاة التراويح من المسجد الحرام، حيث كان يؤمها كبار المشايخ مثل الشيخ عبد الله الخليفي، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ محمد السبيل – رحمهم الله. كانت هذه اللحظات تملأ القلوب بالخشوع، وتزيد من الروحانية في البيوت.
⸻
العشر الأواخر والاستعداد للعيد
س: كيف كانت العشر الأواخر مختلفة عن بقية الشهر؟
ج: في العشر الأواخر، كان الجميع يُكثّف العبادة، فتمتلئ المساجد بالمعتكفين، وتزداد صلاة التهجد وتلاوة القرآن. كما كان الناس يستعدون لإخراج زكاة الفطر، التي كانت تُوزّع على الفقراء بشكل مباشر. مع اقتراب العيد، تبدأ التجهيزات بشراء الملابس الجديدة وإعداد حلويات العيد. و كان الاحتفال يشمل صلاة العيد، ثم التجمع في ساحة البلدة للمشاركة في العرضة السعودية والمسابقات مثل سباق الهجن ورمي الأهداف، وسط أجواء مفعمة بالفرح والشكر لله على تمام الصيام والقيام.
⸻
رسالة ختامية
س: بعد هذه الرحلة الطويلة من الذكريات، ماذا تود أن تقول للأجيال الجديدة؟
ج: أتمنى أن تحافظ الأجيال الجديدة على روح رمضان الحقيقية، وأن يستغلوا الشهر الكريم في التقرب إلى الله وتعزيز صلة الرحم. أسأل الله أن يعيد علينا هذه المواسم المباركة ونحن في خير وعافية.
في ختام هذا الحوار، لا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير لضيفنا الكريم، سمّاح بن سالم الرشيدي، على ما تفضّل به من حديثٍ ثريّ، و معلوماتٍ قيّمة. لقد أثرى النقاش برؤيته العميقة، وأسهم في تسليط الضوء على موضوعاتٍ مهمة. نقدر له وقته وجهده، و نتمنى له دوام التوفيق والسداد. دمتم جميعًا بخير، وإلى لقاءٍ قريبٍ في حواراتٍ قادمة
التعليقات 7
7 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
خالد
10/03/2025 في 7:07 م[3] رابط التعليق
أجمل ماقرأت ..معلومات تشوق الإنسان للماضي
شكرا أضواء الوطن
شكرا للماضي والضيفك القدير
مواطن
10/03/2025 في 7:59 م[3] رابط التعليق
ارتاح لهذا الشخص ..يعد كنز من كنوز العلم والمعرفة ..هنيئا لحائل بهذه الشخصية المصيبة للأسف عن اللجان والمجالس التنموية .
نتمنى أن نجده في مجلس الشورى للمشاركة في صنع القرار فهذه السواعد الوطنية مكسب للوطن ..سماح بن داموك الرشيدي إلى الأمام.
ونشكر المحرر محمد على اختيارالقامات الهامة ..
تابعت الحلقات ومنها حوار وزير الإعلام الأسبق وكذلك الإعلامي المميز سليمان العيدي والكاتب الأديب حماد السالمي وغيرهم من النجوم المضيئة ..شكرا لكم
صالح سالم الرشيدي
10/03/2025 في 8:00 م[3] رابط التعليق
ذكرتني في العاب رمضان زمان لله درك
شلاح محمد
10/03/2025 في 8:01 م[3] رابط التعليق
جميل هذا الطرح اليومي ..شكرا محمد الماضي مبدع دائما والشكر موصولا لضيوفك الكرام
سيد الرشيدي
11/03/2025 في 12:23 م[3] رابط التعليق
حوار قيم ومعلومات عن الريف والصيام حفظطم الله
نافع سليم
11/03/2025 في 4:14 م[3] رابط التعليق
جزاكم الله خيرا على هذه المواضيع المفيدة
بشير الرشيدي
11/03/2025 في 8:11 م[3] رابط التعليق
حوار ممتع ورسائل هادفة وذكريات مفعمة بالود والمحبة
شكرا أبا طارق امتعتنا بهذا الحوار الشيق والشكر موصولا للزميل الماضي على هذا الطرح الجميل