في ليالي رمضان، حيث تعانق الأرواح الطمأنينة و تتزين القلوب بنفحات الإيمان، تأخذنا الذكريات في رحلة دافئة إلى الماضي، حيث البساطة، الألفة، و روح العائلة التي كانت تجتمع حول مائدة واحدة، تتقاسم اللقمة والمحبة. رمضان لم يكن مجرد أيام نصوم فيها عن الطعام، بل كان مدرسة تربوية تعلمنا فيها الصبر، الكرم، و التراحم.
في هذا الحوار الخاص ، تأخذنا الكاتبة والإعلامية ( هيفاء بنت محمد ) إلى زمن جميل، تروي لنا مشاهد من طفولتها الرمضانية، أولى تجاربها مع الصيام ، والأجواء الأسرية التي شكّلت جزءًا كبيرًا من شخصيتها و مسيرتها المهنية . كما تسلط الضوء على الفروقات بين رمضان الماضي و الحاضر، و تأثير التطور الاجتماعي والتقني على العادات و التقاليد الرمضانية، إلى جانب نصائحها للأجيال الجديدة للاستمتاع بروح هذا الشهر الفضيل
نص الحوار:
س/ بداية، حدثينا عن ذكريات الطفولة مع شهر رمضان المبارك، كيف كانت الأجواء العائلية في ذلك الوقت ؟
• كان رمضان دائمًا يحمل نكهة خاصة في بيت الأجداد، حيث تتجمع العائلة في جو مفعم بالمحبة و الروحانية. كانت جدتي -رحمها الله- تحرص على غرس قيم الكرم و التراحم فينا ، فنقوم يوميًا بإيصال أطباق الهريس إلى الجيران قبل الإفطار، لأن رمضان كان يعني مشاركة النعم، وليس الاكتفاء بها.
• و بعد الإفطار، كنا نستعد لصلاة التراويح، حيث نهتم بملابسنا و نحمل معنا البخور إلى المسجد، ليكون المكان عامرًا بعطر السكينة والطمأنينة. لم يكن رمضان مجرد وقت للصيام، بل كان دورة تربوية تعلمنا فيها الأولويات، كيف نضع الآخرين قبل أنفسنا، وكيف يكون الإيمان حاضرًا في كل تفاصيل حياتنا.
س/ متى بدأتِ أول تجربة لكِ في الصيام؟ وكيف كان شعورك حينها؟
• بدأت أول تجربة لي في الصيام عندما كنت في الحادية عشرة من عمري. في البداية، كنت أشعر بالجوع سريعًا، فلجأت إلى والدتي، رحمها الله، أشكو لها ضعفي، فابتسمت وقالت: “كلما شعرت بالجوع، قولي: اللهم إني صائمة.”
• حاولت تطبيق نصيحتها، لكن الجوع لم يختفِ، فعُدت إليها مجددًا، فأشارت إلى قلبي قائلة: “لا بد أن تكون نابعة من هنا، فإذا كان اليقين في قلبك، زال الجوع عنك.”
• منذ ذلك اليوم، تعلمت أن الصيام ليس مجرد حرمان جسدي، بل تجربة روحية تغمر القلب باليقين والصبر.
س/ هل كان هناك تشجيع خاص من الأسرة لصيامكِ في صغركِ؟ وكيف كان تعامل الكبار مع صيام الأطفال؟
• • نعم، كان والدي -رحمه الله- يشجعني بأسلوب ذكي، فكان يقول لي: “اليوم تصومين نصف يوم فقط، وغدًا نصف يوم آخر، ثم نلصق النصفين معًا ليصبح يومًا كاملًا.” وكنت ببراءة الأطفال أصدق الأمر وأعد الأيام بفخر.
• أما الكبار، فكانوا يحرصون على تعليمنا أن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام، بل تهذيب للنفس، وحفظ للسان، وإحساس بمعاناة الفقراء. كنا نُشجع على الصبر والتأمل في معاني رمضان العميقة.
س/ ما الأكلات التي كنتِ تفضلينها على مائدة الإفطار في طفولتكِ؟ وهل ما زلتِ تحتفظين بعادات معينة من ذلك الوقت؟
• كنت أعشق الهريس، والمهلبية التي كانت مكافأتي الصغيرة. وما زلت إلى اليوم أحرص على إعدادها، وكأنها جزء من رمضان لا يكتمل دونه.
• كذلك، بقيت عادة تبخير المنزل بعد الإفطار قائمة، استعدادًا لصلاة التراويح، تمامًا كما كنا نفعل في طفولتنا.
س/ كيف كانت مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان في حيّكم أو مدينتكم؟ وما أبرز العادات الرمضانية التي كنتِ تحرصين على المشاركة فيها؟
• • كان رمضان في حيّنا مميزًا، حيث تزين الشوارع بالفوانيس، وتقام الولائم الجماعية، ويشارك الجميع في “القرقيعان”، وهو احتفال يضج بالفرح، حيث كنا نهدي الأطفال أكياس المكسرات والحلوى، ونردد معهم الأهازيج الشعبية.
• لكن مع مرور الوقت، بدأت بعض هذه العادات تتلاشى، رغم أنها لا تزال حاضرة في ذاكرتنا كجزء لا يُنسى من رمضان الماضي.
س/ هل تتذكرين موقفًا طريفًا أو تجربة لا تُنسى من أيام صيامكِ الأولى؟
• نعم! كنت أصوم نصف يوم فقط، لكنني كنت أربطه بلحظة معينة… وهي لحظة إعداد أمي للمهلبية!
• بمجرد أن تصبها في الصحون، كنت أسرق القليل منها خلسة، وإن رأتني أمي، كنت أقول لها بكل براءة: “انتهى نصف اليوم!” وكأن المهلبية كانت التوقيت الرسمي لفطوري!
س/ كيف انعكست تجربة الصيام في الطفولة على شخصيتكِ ومهنتكِ الإعلامية لاحقًا؟
• تعلمت من الصيام الصبر والانضباط، وهما من القيم الأساسية التي ساعدتني كثيرًا في عملي الإعلامي. فالإعلام رسالة تتطلب الصدق، تمامًا كما يتطلب الصيام إخلاص النية.
س/ في ظل التغيرات الاجتماعية والتقنية، كيف ترين الفرق بين أجواء رمضان قديمًا واليوم؟
• قديمًا، كان رمضان أكثر دفئًا، حيث تجتمع العائلات على مائدة واحدة، وكانت الأجواء أكثر روحانية. أما اليوم، فقد أخذتنا التكنولوجيا من هذه المشاعر الصافية، وباتت الشاشات تحل محل المجالس. لكن رغم كل شيء، يبقى جوهر رمضان ثابتًا لمن يسعى إليه.
س/ بماذا تنصحين الأجيال الجديدة للاستمتاع بالأجواء الروحانية لشهر رمضان والحفاظ على أصالته؟
• أنصحهم بالابتعاد عن الانشغال بالتكنولوجيا، واستغلال رمضان كفرصة لإعادة ترتيب الأولويات، والتقرب إلى الله. فرمضان ليس مجرد زمن، بل فرصة روحية لصناعة التغيير.
س/ في الختام، ما الرسالة التي تودين توجيهها للقراء بمناسبة هذا الشهر الكريم؟
• رمضان ليس فقط امتناعًا عن الطعام و الشراب، بل هو رحلة للتطهير الروحي، و التقرب إلى الله، والتسامح مع النفس و الآخرين. أسأل الله أن يجعله شهر رحمة و بركة، وأن يتقبل منا و منكم صالح الأعمال.
ختام الحوار:
في ختام هذا اللقاء المميز، لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر و التقدير للكاتبة و الإعلامية هيفاء بنت محمد على هذه الجلسة الدافئة، التي حملتنا معها إلى ذكريات رمضان الماضي، و أضاءت لنا معانيه الجميلة.
نسأل الله أن يجعل هذا الشهر الكريم شهر خير و بركة للجميع، وأن يعيده علينا وعلى الأمة الإسلامية باليُمن والبركات.
شكرًا لكِ على هذا الحوار الشيق، ونتمنى لكِ رمضانًا مليئًا بالنور والسكينة.
التعليقات 4
4 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
خالد سلطان
07/03/2025 في 11:22 م[3] رابط التعليق
حوار مميز ومعلومات مفيدة
شكرا للمحرر وضيفته المتميزة
hasan472583@gmail.com
08/03/2025 في 7:36 ص[3] رابط التعليق
الاسئله كنت جميله جدا وكلام هيفاء ولاجابات كنت متنسقه وكلعاده هيفاء متالقه في الحورات ربي يوفقها الى المزيد
المهندس فوزي المعيبد
15/03/2025 في 6:09 ص[3] رابط التعليق
احسنتِ استاذتنا وأديبتنا الغاليه .اتمنى لك كل التوفيق والنجاح
الأديب حاتم منصور
21/03/2025 في 1:52 ص[3] رابط التعليق
حوار دافئ يفيض بعبق الذكريات وروحانية رمضان التي تتسلل إلى القلوب قبل الكلمات
في حديثها نسجت الكاتبة والإعلامية هيفاء بنت محمد خيوط الماضي بحنين نادر
فأحيت أمامنا ملامح الطفولة الرمضانية بكل تفاصيلها الحية
من رائحة الهريس وعبق البخور إلى دفء العائلة وصوت التراويح العائد من مساجد الحي
حديثها لم يكن مجرد استعادة للذكريات
بل كان أشبه بمرآة تعكس جوهر رمضان الحقيقي
مدرسة للصبر
مدرسة للعطاء
وتجربة روحية تُعيد للنفس توازنها
في زمن تداخلت فيه العادات مع مظاهر الحداثة
تبقى نصائحها للأجيال الجديدة دعوة صادقة لاستعادة الصفاء الرمضاني
والعودة إلى النبع الأصيل لهذا الشهر المبارك
حيث الإيمان حاضر في كل نبضة قلب وكل لقمة محبة.